حرصاً منها على أن تخلف تركة غير أكذوبة حربها على العراق، شرعت إدارة بوش في الإعداد لاستضافة مؤتمر للسلام الإسرائيلي- الفلسطيني يعقد الشهر المقبل في واشنطن. غير أن من الواجب القول إن اهتمام الإدارة بإحلال السلام في منطقة الشرق الأوسط، هو آخر ما يأتي في جدول وأجندة اهتماماتها. كما أن المتوقع لها أن تحضر هذا الاجتماع وهي تواجه مشكلات جدية تتعلق بمصداقيتها، ما يعيق كونها وسيطاً نزيهاً يعول عليه في عملية السلام هذه. ومن بين هذه المشكلات على سبيل المثال، رفض الرئيس بوش لقاء الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، مؤيداً بذلك مزاعم إسرائيل القائلة بعدم وجود أي شريك فلسطيني لها يمكن التفاوض معه حول السلام. وفوق ذلك فقد خرج الرئيس بوش عن تقاليد السياسة الخارجية المرعية، ووافق على بناء إسرائيل المزيد من المستوطنات -على حد ما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها الصادر بتاريخ 21 أغسطس 2004- مؤدياً بذلك إلى تقويض "خريطة الطريق" التي شاركت إدارته نفسها في رسمها وإطلاقها بمشاركة الأطراف الأخرى في الرباعية الدولية المؤلفة من كل من الولايات المتحدة الأميركية وروسيا والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة. والأسوأ من ذلك كله، المصادقة العلنية والدعم الواضح الذي قدمته إدارة بوش لحرب إسرائيل على لبنان في صيف العام الماضي. وضمن خروجها على القرارات والتقاليد والأعراف الدولية، فعلت الإدارة هذه المرة الشيء نفسه بعرقلتها لقرار وقف مبكر لإطلاق النيران من قبل مجلس الأمن الدولي، وكان هدفها وراء ذلك إعطاء تل أبيب مهلة أكبر من الوقت لتنفيذ أهدافها التي شنت من أجلها الحرب على "حزب الله". ولكن الذي حدث هو مواجهة تل أبيب لعدو شرس لم تُحسن حسابات مقاومته لها. كما يكذب اهتمام الإدارة المزعوم بمصير الفلسطينيين تعاونها الصريح مع حليفتها إسرائيل العازمة على تقويض وعزل حكومة حركة "حماس"، مع العلم بأنها الحكومة التي انتخبها الشعب الفلسطيني. وبالنتيجة فقد تسببت العقوبات التي فرضتها عليها إدارة بوش، معاناة لا توصف إلى جانب مضاعفتها للتوترات الداخلية في صفوف القيادة الفلسطينية المنتخبة، ما دفع "حماس" إلى تنفيذ سياسة "وضع اليد" على قطاع غزة. وفي الوقت نفسه، أفضت سياسات واشنطن هذه إلى الحد من شرعية الرئيس الفلسطيني محمود عباس "أبو مازن"، بطعن معارضيه في قانونية تمثيله للشعب الفلسطيني. ثم هناك جانب آخر من مشكلات المصداقية التي تعانيها واشنطن أثناء دعوتها لمؤتمر الخريف. ويتلخص هذا الجانب في أن المفاوضات الوحيدة المشتركة التي يمكن أن تسفر عن إحلال السلام بين الطرفين، هي تلك التي تقوم على العدل والقانون، وليس على اختلال توازن القوى بين طرفي النزاع، وهو الاختلال الذي تدعمه الإدارة الأميركية الحالية لصالح الطرف الإسرائيلي. وفي حين أن المؤكد هو رغبة وتطلع الفلسطينيين للنوع الأول من المفاوضات، القائم على أسس العدل والقانون، فإن الملاحظ هو إصرار واشنطن على النهج الثاني وتقديمها له على أنه شرط لازم للتفاوض بين الجانبين. وبحكم اعتماد إسرائيل الكبير على الدعم المالي والدبلوماسي والعسكري الذي يقدمه لها حليفها الأميركي، فإن من الطبيعي أن تكون الولايات المتحدة هي الجهة الوحيدة القادرة على ممارسة تأثيرها ونفوذها على تل أبيب. ووحدها واشنطن القادرة على وضع حد للاحتلال الإسرائيلي غير المشروع للأراضي الفلسطينية، وبالتالي التسوية العادلة للنزاع المرير بين الطرفين. غير أن المؤسف أن ترفض إدارة بوش القيام بهذا الدور. وعليه فإن ما يستشف من تحضيرها لمؤتمر محادثات السلام الذي تنوي عقده خلال الشهر المقبل، هو قيامه على أساس حساباتها لتوازن القوى بين طرفي النزاع. وهذا ما أفصحت عنه وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس بتعبيرها عن رغبتها في اتفاق الطرفين على مبادئ عامة تشكل الأفق السياسي للمحادثات المرتقبة. ولكن السؤال هو: كيف لهذه المبادئ المشتركة أن تتحقق على الأرض؟ بحسب رايس، فإن السبيل هو إجراء محادثات متبادلة بين الجانبين، طالما أن الواجب أن يحتل هذا المسار الثنائي مركز أي حل أو تسوية محتملة للنزاع. ويمكن مراجعة ما ورد على لسان رايس في ما نشرته عنه صحيفة "نيويورك تايمز" في عددها بتاريخ 21 سبتمبر 2007. والذي يفهم من هذا الحديث، أن توازنات القوى، وليس المؤتمرات الجماعية القائمة على قرارات الأمم المتحدة، هي التي سوف تحدد المصير الذي ستسفر عنه محادثات مؤتمر الخريف المرتقبة. وإذا ما افترضنا تطلع إسرائيل للسلام -وهذا افتراض كبير بحد ذاته- فإن الذي لاشك فيه أن رؤيتها الخاصة بالسلام تقوم على الاعتبارات الأمنية الخاصة بمشروعها الاحتلالي الاستعماري، وألا علاقة لها بتحقيق العدل الذي يتطلع إليه الفلسطينيون. وهذا يعني رفضها لأي مقاومة لخططها الرامية لاستمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية، وتوفير الأمن لمستوطناتها، إلى جانب رفضها لأي مقاومة لهيمنة تل أبيب على فلسطين والمنطقة الشرق أوسطية بكاملها. والمشكلة أنه ليس في وسع حكومة محمود عباس الموافقة على أي صفقة سلام تتضمن أياً من هذه الأهداف الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه فإنه ليس في مقدورها تحقيق أي سلام لا يتضمن الأهداف المذكورة. ثم إنها من الضعف وفقدان إمكانيات التأثير، بحيث إنها أعطت إسرائيل سلفاً أقصى ما تستطيع تقديمه لها. ومن مكر إسرائيل أنها مدركة لنقاط الضعف هذه، وهي تعمل على استغلالها واستثمارها إلى أبعد الحدود. والدليل على هذا ما نشرته صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية في عددها الصادر بتاريخ 21 سبتمبر الماضي من تصريح لوزير الدفاع الإسرائيلي إيهود باراك، أكد فيه عجز عباس عن تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه، على رغم حسن نواياه. وما يثير العجب في هذا التصريح، تناسي باراك للدور الذي لعبته إسرائيل في إصابة السلطة الفلسطينية بكل هذا الضعف والخور. وعليه يمكن القول إنه ما من شيء قادر على إزالة هذا الخلل القائم في ميزان القوى بين طرفي النزاع، إلا حدوث حسن إرادة ونوايا في تل أبيب. ولكن متى كان حسن النوايا منطلقاً لسياسات إسرائيل وأفعالها إزاء الفلسطينيين؟!